قانون الإستخبارات والتنصت ، ح2

توسيع المراقبة الألكترونية من أجل اكتشاف “إرهابيين محتمَلين” في المستقبل

قلنا أن القانون الجديد يرخص في توسيع المراقبة على الأجهزة الألكترونية بهدف اكتشاف وجوه إرهابية جديدة. بل تريد الحكومة من هذا القانون أن يسمح باكتشاف أولئك الأفراد المختبئين الذين بإمكانهم التستر عبر ثغرات شبكة المراقبة الألكترونية ، مثل الشباب الذين ذهبوا إلى سوريا والعراق دون أن يتركوا أي أثر ودون أن تتمكن أجهزة الأمن من ملاحظتهم. وهنا يتدخل القانون ليسمح بتوسيع المراقبة والتنصت على الأفراد الذين هم على اتصال بأمثال هؤلاء الشباب، كأقربائهم وأصدقائهم وغير ذلك. ومن أجل فاعلية المراقبة، يجيز القانون وضع مكبرات صوت، سرية و صغيرة جدا، في بيوت وسيارات الأفراد ، أو في أجهزة الكمبيوتر كما يسمح بتثبيت سري  لهوائيات صغيرة   Antennes IMSI-Catchers على أسطح المنازل وبنايات السكن الجماعي الكبيرة ( المعروفة شعبيا باسم عماراتHLM  )  من أجل التنصت على المكالمات الهاتفية للناس.

ويسمح القانون أيضا بخلق ملف ” ألكتروني قانوني وطني شامل ”  يحتوى على كل الأشخاص الذين يُشتبه فيهم، أو يثبت تورطهم في أعمال إرهابية ويتم حفظ المعلومات في هذا الملف مدة عشرين سنة… ويسمح القانون بإدراج الأطفال الصغار في هذا الملف وحفظ معطياتهم مدة عشر سنوات.

كما احتوى القانون على فقرات أخرى تجيز لأجهزة الإستخبارات المراقبة الدولية للأفراد من جنسيات فرنسية، أو من هم على ارتباط شخصي أو مهني بهم.

ولا يخفى على القارئ ما في نصوص هذا القانون من مبالغات وتهويل لما يسمى بالإرهاب؛ إذ من المعلوم إحصائيا[1] أن ضحاياه لا يتجاوز عددهم شخصا واحدا كل عام، أي 20 شخصا كل عشرين عاما، في حين أن ضحايا حوادث السيارات مثلا أودت بحياة أكثر من 3300 شخصا في سنة 2014 وحدها، مع ذلك لم نر أي قانون في هذا المجال يحمي حياة الناس من خطر الطرق السريعة، ولم نسمع ولم نر في أجهزة الإعلام تحسيسا عن أخطار هذه الحوادث. بينما حين يتعلق الأمر بما يسمى “الإرهاب” أو ” الخطر الإسلامي”  نرى التهويل والتخويف الإعلامي،  والقوانين المستهدفة لفئة معينة من الشعب …  والساسة والمفكرون كلٌّ ينعق ليخوف الشعب من شيء لا يكاد يكون له وجود بالمقارنة مع كوارث أخرى كثيرة تشكل  خطرا جديا أكبر وأجدر بالعلاج من خطر ما يسمونه ” الإرهاب”.

إن الإرهاب الحقيقي هو ذلك الإرهاب الإعلامي والسياسي والتشريعي  والفكري الذي يعيشه الشعب الفرنسي ، يصم آذانه نهارا، ويؤرق مضجعه ليلا ويعكر صفو حياته اليومية… إن المواطن الفرنسي لا يريد من حكامه وساسته إلا شيئا واحدا هو : زيادة قدرته الشرائية وملئ جيبه بالمال، أما “الإرهاب” و” الحجاب الإسلامي”  و ما يسمونه “الهلاك الأخضر ” Le péril vert ، فهي أشياء لا تثير انتباه الفرنسي العادي أصلا ولا يفهمها ولا يلقي لها أي بال.

إن هذه القوانين والتشريعات ما هي إلا وسائل  ديكتاتورية محترفة وذكية ، هدفها السيطرة على شعور المواطن الفرنسي وبث الرعب والخوف في نفسه من أجل المزيد من التسلط والسيطرة عليه والتحكم في تصويته وفي رأيه وحريته في التعبير. لا أرى فرقا بين الديكتاتورية الإفريقية والعربية وبين الديكتاتورية الفرنسية الجديدة إلا من حيث الشكل ؛ فإننا نحن العربَ والأفارقة نسيطر بالقوة الصريحة والعنف الشديد على الناس، وهنا في فرنسا يسيطرون على الناس من خلال الإعلام والفكر وعبر سن القوانين للترهيب والتمييز العنصري. إنها ديكتاتورية أشد خطرا بكثير من ديكتاتورياتنا ، حيث لا تظهر مساوئها ولا تبدو قبائحها إلا للمتيقظين النابهين ولا يشعر بها الشعب إلا بعد فوات الأوان.

ميادين تطبيق قانون التنصت

 

من خلال القراءة المتأنية في نصوص مشروع القانون[2] يلحظ القارئ أن السلطات الأمنية سوف يحق لها – بموجب القانون الجديد – أن تتوغل في رسائل الإيميل للأفراد ، والرسائل الصغيرة للهواتف المتنقلة ، وفي الواتساب، وتوتير، وفي المسانجر، وسكايب وفي جوجل وفيسبوك ؛ إذ كل البيانات الواردة عن طريق هذه الوسائل سوف يكون بالإمكان رشفها من خلال ” الصندوق الأسود” الذي تكلمنا عنه مسبقا. وكل هذا بمقتضى بند المادة رقمL811-3  من القانون المذكور. ولاتتوقف عملية الرشف على الأشخاص المشتبه فيهم بالإرهاب بل تتعداه إلى كل الأفراد الذين هم على اتصال بهم كأقربائهم ومعارفهم،  أو كالذين هم موجودين في لائحة اتصال الأفراد المشتبه فيهم ، وهذا أيضا بمقتضى المادة رقم  L852-1 من نفس القانون. وسوف يتم جمع هذه المعلومات المتعلقة بالأفراد في وقت مباشر En temps réel أي فور دخول الأفراد إلى شبكة الأنترنت أو في اتصال هاتفي. وهذا الجمع للبيانات الشخصية للأفراد ستتكفل به شركات الإتصال الكبرى في فرنسا مثل شركة بويغ Bouygues وشركة أس أف أرSFR  وشركة أورانج Orange وشركة البريد Poste …

ويقضي القانون أيضا بالسماح للإدارة الفرنسية أن تجبُر أي شركة اتصالات على أن تكشف عن المعلومات الشخصية السرية لأي فرد قد يشكل تهديدا إرهابيا محتملا.  كما يُلزم القانون كل شركات الإتصال أن تزود أجهزة الأمن بالمعلومات الفنية المتعلقة بالكشف عن بيانات الأفراد، كما وتُلزَم أيضا هذه الشركات بتحديد المكان الأرضي La géo localisation الذي يوجد فيه الأفراد، أو أي سيارة مشتبهة ، أو أي شيئ ما. وهذا بمقتضى المادة L851-6 من نفس القانون.

ويقضى القانون كذالك بالسماح لأجهزة الإستخبارات بتحديد الأمكنة الأرضية التي توجد فيها أجهزة الكمبيوتر الشخصية للأفراد، وتحديد أماكن آيفوناتهم أو أي جهاز متصل على شبكة الإنترنت. ويسمح لهم بالتوغل عن بُعد في هذه الأجهزة من أجل الكشف عن أي معلومات تتعلق بالأفراد ، مثل رقم الإشتراك في شركة الإتصال أو أرقام هواتف أو عناوين أو غير ذلك. ويسمح لهم أيضا بأخذ صور من هذه الأمكنة ومن الأجهزة نفسها. كل ذلك حسب المادة رقم L851-7 من القانون.

أما المادة رقم L853-1 فتقضي بالترخيص لأجهزة الإستخبارات بالتقاط وتسجيل المكالمات الهاتفية الشخصية جدا ، وكذا تصوير الأفراد ولو كانوا في أماكن خصوصية كالبيوت والغرف وغيرها…

لا أخفي على القارئ الكريم أن أول شيء بدر إلى ذهني،  أثناء مطالعتي لمواد هذا القانون، هو أني ظننت نفسي في جمهورية سوفيوتية من عهد لينين أو في إحدى الدول العربية العريقة في الديكاتورية والظلم والسيطرة على الناس. لكن هذا – للأسف- هو الواقع المعاش في فرنسا، “بلد الأنوار والحريات” كما يزعم السُّذج والمغفلون من بني جلدتنا…

والأكثر إثارة وخطورة في نصوص هذا القانون، أن هذه المراقبات والمتابعات المنصوص عليها تَستعمل تقنيات فنية عالية جدا، وفي منتهى الخطورة على خصوصيات الأفراد وحياتهم الخاصة. من هذه التقنيات المستعملة ، مثلا، تقنية تدعى “كي لوجر” Keylogger ، وهي عبارة عن برنامج معلوماتي يسمح لضابط المخابرات بالدخول في كمبيوترك الشخصي – دون أن تعلم –  وقراءة أي نص تكتبه  في نفس اللحظة التي تضرب أنت فيها على أزرار لوحة المفاتيح.

وثمت تقنية أخرى أشرت إليها في السطور السابقة ، وهي تستعمل جهازا يسمى ” إمسي كاتشر”” IMSI-CATCHERS ، وهذا الجهاز هو الذي أثار غضب ومخاوف كل المعارضين للقانون. يسمح الجهاز المذكور بالتقاط المكالمة الهاتفية التي تتم عبر أسلاك شبكات الإتصالات دون أن يشعر الشخص المتصل بأي شيئ.  وسعر هذا الجهاز غال جدا، وقد انتوت الحكومة الفرنسية أن تقتني منه أعدادا كبيرة لتسهيل عملية التنصت على الأفراد، وسعره حاليا يكلف حوالي مائة ألف يورو للجهاز الواحد. وهو جهاز يقول الفنيون أنه لا يكتفي فقط بالتنصت على فرد واحد ، بل يستطيع التقاط كل المكالمات الهاتفية الموجودة في محيط المنطقة التي يتواجد بها الشخص المستهدَف من التنصت. إنه فعلا عصر جديد من التجسس على الشعوب وخنق حرياتهم وتنغيص حيواتهم.

ومن تناقضات الحكومة الفرنسية وارتجاليتها في التشريع وقدرتها على تضليل الجماهير، أن وزير الداخلية – في سنة 2014 ، في إطار تشريع ما يسمى “القانون  المضاد للإرهاب” –  كان وصف في إحدى مداخلاته هذا الجهاز IMSI-CATCHERS  بالـ”خطير” وبأنه لا يمكن ترخيص استعماله بأي حال من الأحوال، وها هم الآن يرجعون عن كلامهم  ، ليرخصوا استعماله في التنصت على الناس والتجسس عليهم.

 

هوامش

[1]  انظر كلامنا  – في الفصل الخاص بـ (الإعلام) –  حول إحصاءات ضحايا الإرهاب في فرنسا ، للخبير الفرنسي Denécé Eric، مؤسس المركز الفرنسي للبحوث المتعلقة بالتخابر، المعروف اختصارا بـ  CF2R.

[2] كل نصوص ومواد هذا القانون متوفرة على رابط الجمعية الوطنية (البرلمان) ، تحت هذا العنوان :

http://www.assemblee-nationale.fr/14/ta/ta0511.asp (تم استشارته يوم 06/09/2016)

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *