توغل الإسلام في فرنسا، الحلقة الثانية

(من كتاب فرنسا التي رأيت)

رغم أن كافة الدراسات التاريخية الفرنسية المعاصرة تقلل من أهمية الحضور الإسلامي في فرنسا في العصر الوسيط ، بل يعتبرها بعض المفكرين ظاهرة عابرة لا تستحق التوقف عندها، إلا أن بعض المؤرخين النزهاء أمثال فيليب سيناك   Philippe SENAC (أستاذ التاريخ الوسيط بجامعة تولوز ومحاضر في فرع جامعة السوربون بأبي ظبي)،  و “ريمي ماريشال  Rémi MARICHAL ” (عالم آثار ، وباحث في معهد INRAP) ، برهنا في أبحاثهم على أن منطقة  المدائن السبع المعروفة عندهم بـ Septimanie كانت  – طيلة أربعين عاما – ولاية تابعة للخلافة الإسلامية في الأندلس، وكانت عاصمتها هي مدينة ناربون Narbonne ، وأنه كان في هذه المنطقة مسجد كبير[1]. بل إن المؤرخيْن آنفي الذكر كتبا في مؤلف مشترك لهما أن مدينة ريسينو Ruscino الواقعة في منطقة ” بيريني أوريانتال Pyrénées orientales  ” كان فيها أيضا جامع عتيق[2].

هذه المساجد الكبيرة، لم يعد لها وجود اليوم.. بل توجد حاليا عدة كنائس عتيقة يقال أنها بنيت في العصر الوسيط، ولاشك أن هذه الكنائس قد تكون حلت محل تلك المساجد التي – ربما – كان دمرها الغزاة المسيحيون الذين أتوا من بعد ، كعادتهم في طمس المعالم الإسلامية. و ما خبرُ بطشِ أهل الصليب بالمسلمين وطمس آثارهم في الأندلس منا ببعيد.

بعد سقوط ” ناربون” في يد المسلمين، سقطت ، سنة 725م، عدة مدن فرنسية أخرى، منها : (أوتين Autin  في الشرق الفرنسي ، ثم كاركاسون Carcassone ، فـ(لوديف) Lodève، فـ(بيزيي) Béziers ، فمدينة Nîmes )[3]  ، على يد عبد الرحمان الغافقي ، وقيل عنبسة بن سحيم الكلبي، الذي خلف السمح بن مالك بعد استشهاده. والمدن الآنفة الذكر هي عبارة عن الولايات المعروفة اليوم بالأسماء التالية :

 Les Pyrénées orientales, L’Aude, l’Hérault, Le Gard.

 في نفس الفترة ، سقطت أيضا مدينة ليون Lyon التي هي اليوم ثالث أكبر مدينة على التراب الفرنسي.

في سنة 732م الموافق لسنة 114هـ ، سيطر عبد الرحمان الغافقي على منطقة آكتين Aquitaine ، فسقطت مدينة بوردوBordeaux  ، التي هي اليوم سابع أكبر مدينة فرنسية من حيث عدد السكان.

 بعد سقوط بوردو، أعلن زعيمها “الدوق أود” Le Duc Eudes  خضوعه لحكومة الأندلس وانضم إلى رعية الخليفة. ويذكر بعض المؤرخين أن  “الدوق أود”  زوّجَ بنته المسماة  “لامبيجي Lampégie ” لقائد الجيش الإسلامي عثمان بن نايسة المعروف عندهم بـ  Munûsa[4] . وجسّدَ هذا الزواج عقْد تحالف مع المسلمين.

دائما في سنة 732 م، واصل المسلمون توغلهم شمالا في أعماق فرنسا ، فدخلوا مدينة تور Tours  لكن القائد الفرنسي شارل مارتيل Charles Martel أوقف تقدم المسلمين في المنطقة الواقعة بين مدينتيْ بواتيي Poitiers  وشاتيلرو Châtellerault ، في معركة شهيرة عُرفت بمعركة ” بلاط الشهداء” . استُشهد فيها القائد عبد الرحمن الغافقي. وقد دامت هذه المعركة أسبوعا كاملا من يوم 25 أكتوبر إلى يوم 31 من سنة 732م، الموافق لليوم الأول من رمضان إلى اليوم السابع منه، سنة 114 للهجرة .. بعد هذه المعركة انحسر قليلا تقدم المسلمين في فرنسا.

 و يخطئ الكثير من العامة والمثقفين إذ يظنون أن المسلمين توقفوا نهائيا عن التقدم في أعماق فرنسا عند مدينة بواتيي Poitiers .. كلا، بل تحرّف المسلمون إلى قاعدتهم العسكرية في ناربون،  ليواصلوا بعد ذلك توغلهم في مناطق أخرى..  ففي سنة 735 م، سقطت على يد المسلمين مدينة آرْلْ Arles ، ومدينة سان ريمي Saint-Rémi ومدينة آفينيونAvignon  . وكل هذه المدن تقع حاليا في جنوب فرنسا . كان قائد المسلمين آنذاك يوسف بن عبد الرحمان الفهري ، الذي كان واليا على الأندلس..

ثم استمر حكم المسلمين على مناطق جنوب فرنسا ردحا طويلا من الزمن، حتى وقع النزاع بين العباسيين  وبني أمية على الحكم ، وانتهى الأمر بسقوط الأمويين سنة 750م ليحل محلهم بنو العباس. هذه النزاعات الأخوية بين المسلمين ، إضافة إلى الصراع على حكم الأندلس بين يوسف بن عبد الرحمان الفهري من جهة، و عبد الرحمان بن معاوية (المعروف بالداخل) من جهة أخرى، ثم المجاعة المشهورة التي عصفت بأهل الأندلس في تلك الفترة.. كل ذلك أدى إلى إهمال الحكومة المركزية في الأندلس لجيوشها في فرنسا، مما ضعّفَ الجيش الإسلامي في ولاية ناربون و في المناطق الفرنسية التابعة لها؛ وهذا هيّجَ أطماع الزعماء الفرنسيين Les Francs (الإفرنج)؛ لينتهزوها فرصة للإنقضاض على الخلافة الإسلامية في ناربون. و بعد سلسلة من المناوشات و الكر والفر بين المسلمين والإفرنج، تم سقوط  خلافة ناربون سنة 759م.  لكن ذلك، لم يثن المسلمين عن مواصلة التقدم في بقايا المناطق المجاورة.. فانتهى الأمر بهم إلى استيطان جنوب فرنسا على شكل سكان قاطنين، لا غزاة مقاتلين. وفي هذا الصدد ، يروي المؤرخ ديدي هامونو Didier Hamoneau  عن المؤرخ فرانسوا كليمان ، قوله أن : (المؤرخ بول دياكر  Paul DIACRE (من أهل القرن الثامن) ذكر أن المسلمين دخلوا مناطق ” آكتين Aquitaine” رفقة عائلاتهم وذراريهم من أجل السكن والإستقرار في هذه المناطق)[5].

 هذا – إن صح – يعني أن المسلمين ، إذاً، استوطنوا تلك المناطق بشكل نهائي، واختلطوا بأهاليها الأصليين، وتزاوجوا معهم وأنجبوا منهم…

هذا الإختلاط البشري بين المسلمين والسكان المحليين يعزز الفرضية القائلة بأن جل سكان مناطق الجنوب الفرنسي، مثل منطقة (آكتينAquitaine ) وغيرها، لهم أصول عربية – بربرية – أندلسية. على كل حال، فإن أشكال وملامح وجوه الجنوبيين تشابه إلى حد بعيد وجوه العرب، وأعينهم ليست بالزرقة المعهودة لدى فرنسيي الشمال والغرب، بل فيها سواد يذكّر كثيرا بسواد عيون العرب. وقد شاهدت خلال إقامتي بمدينة بوردو Bordeaux – أيام دراستي الجامعية – أن النساء عندهم يشابهن كثيرا النساء الشرقيات من حيث سواد شعر رؤوسهن، وسعة عيونهن، وشكل محاجرهن ، وحجم قدودهن وامتلائهن . والرشاقة فيهن قليلة ، كما أنها قليلة في نساء العرب اللواتي كنّ يُمدحن غالبا بالإمتلاء والجسامة، على حد قول قيس بن الملوح في ليلاه:

خدلّجَة الساقين بَضٌّ بضيضة  ** مُفلّجَة الأسنان مصقولة الصدرِ

خدلجة الساقين ، تعني غليظتهما. ولَكأني بقيس بن الملوح يصف – وهو لا يدري-  غانية من غواني بوردو

Bordeaux..

[1] F. CLEMENT,المصدر السابق

[2] Sénac Ph. Marichal R.,  (2005),  Découverte de seaux arabes  sur le site de Ruscino(اكتشاف خواتم عربية في موقع (ريسينو , Archéologia, 420, Dijon, 4-5.

[3] Sénac Ph. Marichal R.op.cit

[4] Hamoneau Didier, op. cit, page 68

[5] Hamoneau Didier,  op.cit, page 71

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *