فرنسا تحت الحكم الإسلامي – الحلقة الأولى

فرنسا تحت الحكم الإسلامي (719-972م)

ملاحظة : (  كل ما يَرِد في هذا الباب مقتبس من كتاب : فرنسا التي رأيت – لمؤلفه محمد عبد الله ولد المرواني )

 

مقدمة

ليس الحضور الإسلامي في فرنسا مجرد طفرة حدثت في سنوات ما بعد الإستقلال.. بل للمسلمين في هذه البلاد حضور قوي ضارب بجذوره في أعماق التاريخ.

ففي أوج الحضارة الإسلامية ، كانت فرنسا عبارة عن ولاية راضخة تحت الخلافة الإسلامية في الأندلس.. إنها مرحلة تاريخية هامة تكاد تكون مجهولة لدى جل المثقفين المسلمين وغير المسلمين، نظرا لما شابها من التعمية والتضليل عبر الأجيال.. بل إن السلطات الفرنسية، وبالتحديد وزارة التربية الوطنية ، تتعمد التغطية – في المدارس-  على هذه المرحلة من تاريخ فرنسا الوسيط؛ بسبب بروز الإسلام  وتأثيره في فرنسا في تلك الحقبة من التاريخ. فلا تجد أبدا في المناهج الدراسية عندهم أي كلام عن هذه الفترة، في حين أنهم يلقنون للتلاميذ الصغار تاريخ المسيحية و اليهودية بالتفصيل. إنها سياسة التحريف والتضليل، والتنكر لأصول فرنسا الإسلامية… سياسةُ نكران وجحودٍ زُرعتْ في أدمغة الأجيال ، ابتداءً من المدارس الإبتدائية فالثانوية ..وحتى في المرحلة الجامعية. وعوّدَنا الساسة والبحاثة، والمفكرون على ترديد تلك العبارة الكاذبة التي تقول أن ( فرنسا أصولها مسيحية- يهودية فقط[1]) ، وهذا في الحقيقة افتراء واضح ، وتَنكّرٌ فاضح للواقع التاريخي، وتضليل للرأي العام. بل لها أصول إسلامية ضاربة في أعماق التاريخ. وسوف نرى الأدلة المادية الدامغة على ذلك في الفقرات اللاحقة..

نعم ! ليس الحضور الإسلامي في فرنسا وليد العصر الحديث ،كما يزعم الساسة والمفكرون الفرنسيون. بل دخل المسلمون لأول مرة إلى أرض فرنسا ، في العصر الأموي، قبل أن تكون فرنسا دولة واضحة المعالم، وأمة متحدة الكيان.. بل كانت آنذاك مجموعة من القبائل المتوحشة البربرية ومن اللصوص وقطاع الطرق، يرعاهم بعض الرهبان المسيحيين…. كانت فرنسا تُعرف آنذاك بأرض الغال La Gaule .. دخلها المسلمون، فأشاعوا فيها الأمن و الأمان .. واختلطوا بأهلها وعايشوهم بكل محبة و سلام .

بشكل أدق، تم دخول المسلمين إلى التراب الفرنسي في مطلع القرن الثاني الهجري الموافق لسنة 714 م. أيام حكم الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. وكان ذلك عن طريق بعثات سلمية قامت بها الجيوش الإسلامية على منطقة شمال البيريني Nord de Pyrénées  . كانت جيوش الاسلام آنذاك قادمة للتو من فتح الأندلس في إسبانيا…

 بعد هذه المرحلة،  امتد التوغل الإسلامي في فرنسا طيلة قرنين و نصف من الزمان وبالتحديد من سنة 719 م إلى سنة 972 م  أي مدة 253 سنة، تخللتها فترات غير مستقرة[2].. كانت البداية من منطقة ناربون Narbonne، وكانت النهاية في قلعة ” جارد فرينت” Garde- Freinet. هذا بالإضافة إلى بقاء الكثير من المسلمين في منطقة مونبيليي  Montpellier حتى القرن الثاني عشر.

وقد ترك الحضور الإسلامي في فرنسا آنذاك، آثارا واضحة لا زالت آياتها تُشاهد اليوم عبر كثير من الكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي[3]، وعبر بعض الأعراف المجتمعية السائدة في جنوب فرنسا، وعبر الثقافة والبنيان. وفرنسيو الجنوب ، كلهم تقريبا، لهم أصول نسب عربية أو بربرية.

يقول المؤرخ الفرنسي فرانسوا كليمان  F. Clément (أستاذ متخصص في تاريخ اسبانيا ، ومدير قسم الدراسات العربية بجامعة نانت Nantes) أن :

 ( أول دخول للمسلمين في منطقة ما وراء البيريني Pyrénées حصل ما بين سنة 714-715 م، وفي سنة 720 م تمت السيطرة الإسلامية على منطقة ناربون Narbonne بقيادة السمح بن مالك  الخولاني، الذي توغل حتى وصل إلى تولوز، ثم استُشهد في معركة بها ، في يوم  9 يونيو 721م …[4]) كان السمح بن مالك الخولاني – رحمه الله – والي عمر بن عبد العزيز على الأندلس.

أما المؤرخ الفرنسي فيليب Philippe Sénac، فلا يبتعد في رأيه عن رأي فرانسوا كليمان ، إذ يعتبر أن : منطقة ناربون سقطت في قبضة الجيوش الإسلامية في منتصف سنة 719 م، أي في شهر ذي الحجة من سنة 100 للهجرة. وكان الجيش آنذاك تحت إمرة السمح بن مالك الخولاني (ت.721م). [5]

ومن الأدلة على استعمار المسلمين لفرنسا في تلك الفترة، اكتشاف بعض الباحثين في علم الآثار لعدة عملات نقدية إسلامية في منطقة ” آكِتيْن ” Aquitaine ومنطقة ناربون Narbonne، الواقعتين  جنوب فرنسا.. و يرجع عمر هذه العملات إلى القرن الثامن الميلادي[6] ، وبالتحديد سنة 95 للهجرة (715-716 م)  ، أي في عصر الأمويين. مما يعني أنه كان في تلك المناطق الفرنسية حكم إسلامي بشكل ما.

وقد رأيت بعيني –  في إحدى الوثائق العلمية[7] –  صورا  لبعض هذه العملات المعدنية ورأيت مكتوبا عليها عبارة : (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) وفي بعض القطع النقدية الأخرى مكتوب (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد)..

كما اكتشف بعض الباحثين بقايا سفن بحرية عليها علامات أندلسية في المنطقة الواقعة بين مرسيليا ومدينة “كانْ ” Cannes ، منها سفينة اكتُشفت سنة 1962 في عرض البحر قرب مدينة آجاي Agay. وسفينة أخرى قرب شواطئ “كان”Cannes  في سنة 1973م. أما في سنة 1975 فقد اكتُشفت سفينة إسلامية قرب مدينة مارسيليا Marseille  ، واكتُشفت سفينة أخرى قرب شواطئ منطقة “سان تروبي”  Saint Tropez  [8]. إن اكتشاف هذه السفن في تلك المنطقة يبرهن على وجود نشاط إسلامي  كثيف في القرن الثامن الميلادي. كما يدل على أن المسلمين بنـوْا آنذاك الكثير من البنى التحتية و الموانئ البحرية في أرض فرنسا.

[1] كثيرا ما يستعمل الساسة في خطاباتهم الإنتخابية هذه العبارة، يستميلون بها أصوات الكهول المتقاعدين والناخبين المتطرفين من كل الأطياف

[2] Hamoneau Didier, l’Histoire méconnue de l’Islam en Gaule, Ed. La ruche, 2012.

[3] Cf. Dictionnaire des mots français d’origine arabe(قاموس الكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي ) , Salah GUEMRICHE, ed. Seuil, 2007.

[4] François CLEMENT, «  La province arabe de Narbonne au VIII siècle » (ولاية ناربون العربية في القرن الثامن), in « Histoire de l’Islam et des musulmans en France du moyen âge à nos jours », (dir.) M. Arkoun, Paris, Albin Michel, 2006

[5] Sénac Philippe, Les musulmans en terre languedocienne XIII-XI siècles, in : Le pays Cathare, Paris, 2000, 164-166

[6] Jean DIPLESSY, in La circulation des monnaies arabes en Europe Occidentale du VIII au XIII siècle, RN, Paris, 1956.

[7] Cf. Marc PARVERIE, La circulation des monnaies arabes en Aquitaine et Septimanie VIII-IXème siècles(حركة القطع النقدية العربية في “الآكتين” وذات المدائن السبع، في القرنين الثامن والتاسع).

[8] Hamoneau Didier, op.ct. Page 89

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *